مصير قوات سوريا الديمقراطية في ظل التحولات الأمريكية والإقليمية

المؤلف: عمر كوش08.26.2025
مصير قوات سوريا الديمقراطية في ظل التحولات الأمريكية والإقليمية

إنّ حالة الجمود التي طالت الاتفاق المبرم بين الرئيس السوري، أحمد الشرع، وقائد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مظلوم عبدي، في العاشر من مارس/آذار الفائت، قد استدعت تدخلاً أميركياً سافراً، حيث سعى المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، توم باراك، جاهداً لوضع تصوّر عملي لتفعيل بنود الاتفاق خلال اجتماعه المثمر مع الرئيس الشرع ومع مظلوم عبدي في العاصمة دمشق في التاسع من يوليو/تموز الحالي. بيد أن جهوده باءت بالإخفاق، إذ انتهت المباحثات بين الحكومة السورية والوفد الكردي دون بلوغ صيغة متينة لتنفيذ الاتفاق، وذلك في ظل التباين الشديد في وجهات نظر الطرفين المتباعدة.

وعليه، فبالرغم من إعلان عبدي في نهاية مايو/أيار المنصرم عن التزام "قسد" الراسخ ببنود الاتفاق المُبرم مع الحكومة السورية، والتأكيد على العمل الدؤوب لتطبيقه من خلال اللجان المشتركة المشكلة بين الجانبين، إلا أن الواقع الملموس يُظهر أن ثمة خلافات جوهرية ما تزال تشكل عائقاً كبيراً أمام التطبيق الشامل لكافة بنود الاتفاق، ولا سيما تلك البنود المتعلقة بمآل قوات "قسد" التي ما زالت تهيمن على مناطق واسعة وغنية بالخيرات في شمال شرق سوريا.

بالإضافة إلى ذلك، وجهت "الإدارة الذاتية" في تلك المناطق انتقادات حادة اللهجة للإدارة السورية على خلفية الإعلان الدستوري المؤقت، وانتقدت كذلك تشكيل الحكومة الانتقالية، معتبرة أنها لا تعكس التنوع الإثني الغني في سوريا.

الموقف الحكومي

يشكل الإخفاق الذريع لهذه الجولة من المفاوضات علامة فارقة في مسيرة تنفيذ الاتفاق بين الشرع وعبدي، ويلقي بظلال كثيفة من الشك والريبة حول مصيره المحتوم، نظراً لكونه يتعلق بسيادة الدولة السورية، وبمستقبل وحدة الأراضي السورية والمؤسسات الحكومية الجديدة.

يرتكز الموقف الصلب للحكومة السورية على عدة نقاط أساسية ومحورية، لخصها البيان الرسمي الذي أصدرته عقب انتهاء الاجتماع مع وفد "قسد"، ويتضمن ما يلي:

1- تؤكد الحكومة السورية أن المكوّن الكردي كان، ولا يزال يشكل، جزءًا لا يتجزأ من النسيج السوري المتنوع بأطيافه، وتشدد على أن حقوق جميع المواطنين السوريين، على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية، مصانة ومحفوظة بشكل كامل ضمن مؤسسات الدولة الرسمية، وليس خارجها.

2- الترحيب الحار بأي مسعى جاد مع "قسد" من شأنه تعزيز وحدة واستقلالية أراضي البلاد، انطلاقاً من التمسك المطلق بمبدأ راسخ: "سوريا واحدة موحدة، وجيش واحد موحد، وحكومة واحدة".

3- الرفض القاطع والثابت لأي شكل من أشكال التقسيم أو الفدرلة المقيتة.

4- الجيش السوري هو المؤسسة الوطنية الجامعة لكل أبناء الوطن الأوفياء، وترحب الحكومة بصدور رحب بانضمام المقاتلين السوريين من "قسد" إلى صفوفه، ضمن الأطر الدستورية والقانونية المعتمدة.

5- على الرغم من تفهّمها العميق للتحديات الجسام التي تواجه بعض الأطراف داخل "قسد"، فإنها تحذّر بشدة من أن أي تأخير في تنفيذ الاتفاقات الموقعة لن يخدم المصلحة الوطنية العليا، بل سيزيد المشهد تعقيداً، وسيعيق الجهود المضنية لإعادة الأمن والاستقرار المنشود إلى جميع المناطق السورية.

موقف قسد

لم يطرأ أي تغيير جوهري على مواقف قيادات "قسد" الثابتة، الرامية إلى الحفاظ على ما تعتبره مكاسب ثمينة تحققت خلال السنوات الماضية، والتي جعلت منها قوة لا يستهان بها في المشهد السوري الجديد، وتتلخص مطالبهم الرئيسية بما يلي:

1- الإبقاء على هيكليتها العسكرية الخاصة، والانضمام إلى الجيش السوري كقوة مستقلة بذاتها تحت اسم "قوات سوريا الديمقراطية"، مع انتشار عسكري ضمن تشكيلات منفصلة في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة.

2- إرساء دعائم نظام حكم لامركزي يمنح "الإدارة الذاتية" صلاحيات إدارية وأمنية واسعة النطاق في شمال شرق سوريا، مع احتفاظها بالسيطرة المحلية المحكمة على تلك المناطق، إذ ترى القوى السياسية الكردية أن الأكراد قد عانوا عقوداً طويلة من التهميش والإقصاء الممنهج، وأن السلطة الجديدة تسعى جاهدة إلى ترسيخ مركزية القرار وتهميش المكوّنات الرئيسية من إدارة المرحلة الانتقالية.

3- الاعتراف الصريح بالمناطق الكردية كوحدة سياسية وإدارية واحدة وموحدة داخل سوريا اتحادية، وفق ما ورد تفصيلاً في الوثيقة الرسمية التي اعتمدتها القوى السياسية الكردية في مؤتمر القامشلي الذي انعقد في أواخر شهر أبريل/نيسان الماضي. بالإضافة إلى تحصين هذا الاعتراف الهام مع مطالب أخرى مشروعة في الدستور السوري المقبل.

4- تمديد الفترة الزمنية المحددة مسبقاً لتنفيذ الاتفاق، والتي من المقرر أن تنتهي مع نهاية العام الجاري، لأن "قسد" في أمس الحاجة إلى مزيد من الوقت الثمين لتنفيذ بنود الاتفاق بشكل كامل.

الموقف الأميركي

قوبلت هذه المطالب الكردية برفض قاطع وحاسم من جانب الحكومة السورية، ونتيجة لذلك، انتهت المفاوضات دون تحقيق أي تقدم يذكر على الإطلاق. ولعل النقطة الإيجابية الوحيدة التي تم الاتفاق عليها هي مواصلة اللجان المشتركة التي تم تشكيلها من الجانبين عقد اجتماعات قريبة ومكثفة بهدف تنفيذ وتفعيل اتفاق العاشر من مارس/آذار.

الجدير بالذكر هو تقارب وجهات النظر بشكل ملحوظ بين الموقف الأميركي وموقف الحكومة السورية، حيث اعتبر المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، أن أمام "قسد" طريقاً واحداً لا ثاني له، ألا وهو الطريق المؤدي إلى دمشق.

والأهم من ذلك هو تأكيده القاطع على أن "الفدرالية لا يمكن أن تنجح في سوريا"، وأن الحكومة السورية قد أبدت حماساً منقطع النظير لضم "قسد" إلى مؤسساتها الرسمية ضمن مبدأ واضح وثابت: "دولة واحدة، أمة واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة"، إلا أن "قسد" تتسم بالبطء الشديد في الاستجابة والتفاوض والمضي قدماً في هذا المسار الحيوي.

يتّسق كلام باراك هذا مع التحول الكبير الذي تشهده السياسة الأميركية تجاه الملف السوري، ويهدف في المقام الأول إلى إعادة صياغة أولويات الولايات المتحدة وموازين القوى في منطقة شمال شرق سوريا، وتوجه جديد في مقاربة الوجود الأميركي هناك.

وقد انعكس هذا التحول الجذري في انخفاض ميزانية التمويل الأميركي المخصصة لسوريا، والتي تناقصت بشكل تدريجي وسنوي لتصل إلى أقل من 130 مليون دولار أميركي، في حين أنها كانت قد بلغت ذروتها عند 500 مليون دولار في عام 2018، وذلك بعد أن فقدت "قسد" أهميتها القتالية في مكافحة تنظيم الدولة المتطرف بعد عام 2019.

وانحصرت أهميتها في منع عودة ظهور التنظيم الإرهابي مجدداً، وحراسة مشددة لسجون عناصر التنظيم، ومخيمات عائلاتهم المتواجدة في شمال شرق سوريا.

وفي هذا السياق، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الداعية إلى تولي الحكومة السورية مسؤولية مراكز احتجاز عناصر تنظيم الدولة الإرهابي، والتي تتلاقى بشكل وثيق مع اتفاق العاشر من مارس/آذار الماضي، الذي ينص صراحة على بسط الحكومة السورية سلطتها الكاملة على منطقة شمال وشرق سوريا، وتوليها مهمة حراسة سجون عناصر تنظيم الدولة الإرهابي، ومخيمات عائلاتهم، ويفضي في نهاية المطاف إلى اندماج "قسد" في الجيش السوري الجديد، وعدم استمرارها في هيكلها الحالي المنفصل.

مصير "قسد"

إن تلميح الحكومة السورية الضمني إلى تفهّمها للتحديات التي تواجه بعض الأطراف المكوّنة لـ "قسد"، يشير بوضوح إلى وجود خلافات عميقة ومتجذرة بين الأطراف السياسية التي توجه بوصلة "قسد"، حيث أن بعضها يميل بشدة إلى الاندماج الكامل في الجسم السوري الجديد، في حين أن بعضها الآخر ما يزال يرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ويضع مطالب تعجيزية لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع.

وتعكس هذه الخلافات المتفاقمة حقيقة دامغة، وهي أن "قسد" تخضع في قيادتها وهيمنتها لقوى سياسية كردية نافذة، وعلى وجه الخصوص "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي"، وذلك عبر ذراعه العسكري القوي "وحدات حماية الشعب"، التي تمثل الثقل الرئيسي فيها.

لذلك يحاول هذا الحزب جاهداً ربط مصيره المحتوم بمستقبل القضية الكردية في سوريا، حيث تُصرّ قياداته بإلحاح على طرح مطلب "اللامركزية السياسية"، وهو ما يحاول المبعوث الأميركي باراك إزاحته بشكل قاطع عن طاولة المفاوضات، فيما تتعامل الحكومة السورية مع "قسد" بمعزل تام عن هذا الحزب وأجندته الخاصة.

غير أن التحول الملموس في السياسة الأميركية تجاه سوريا، وميلها المتزايد نحو دعم الاستقرار فيها، يجعل الإدارة الأميركية تقترب أكثر فأكثر نحو حسم مصير "قسد" بشكل نهائي، ومعها مصير "الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا"، خاصة بعد سعيها الحثيث إلى إنهاء تواجدها العسكري الأميركي فيها، والذي بدأ فعلياً بتقليص كبير في عدد الجنود الأميركيين إلى أقل من ألف جندي، وذلك في ظل إمكانية انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإرهابي، وربما التوصل إلى اتفاق رسمي مع الحكومة السورية يقضي بموافقتها على تواجد هؤلاء الجنود في "قاعدة التنف" الاستراتيجية.

بالإضافة إلى التوافق الأميركي التركي حول ضرورة دمج عناصر "قسد" في الجيش السوري، ضمن تسوية شاملة تضمن تفكيك ما تعتبره تركيا تهديداً كردياً وجودياً لها، مقابل تراجعها التدريجي عن تدخلاتها العسكرية المتكررة في الشمال السوري، مما يقدم معطى إضافياً هاماً على تبدل المواقف الدولية والإقليمية تجاه سوريا.

إذاً، ينبغي على قيادات "قسد" أن تعي جيداً طبيعة المتغيرات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة التحولات الجذرية في السياسة الأميركية تجاه سوريا، وأنها لم تكن في يوم من الأيام شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأميركية في سوريا.

والأجدى لها أن تنخرط بفعالية في الجسم السوري الجديد، لأن الرهانات الخاسرة على المشاريع الانفصالية، وعلى دعم قوى الخارج الطامعة، قد أثبتت فشلها الذريع في أماكن كثيرة من العالم.

ولعل التغييرات الكبيرة والمهمة التي جرت في تركيا مؤخراً، بإعلان "حزب العمال الكردستاني" التركي حل نفسه وتسليم كامل أسلحته استجابةً لدعوة زعيمه التاريخي عبد الله أوجلان، تقدم درساً بليغاً يمكن لـ "قسد" الاستفادة منه عبر الاندماج السريع في الجسم السوري الجديد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة